المعلّم باتشلي

   اي بنيّ لقد طال جلوسك الليلة أمام مكتبك. وقد خالفت في ذلك عادتك، فإنّي عاهدت فيك السرعة في كتابة فروضك وحلّ أعمالك الحسابيّة، فهل اعترضتك مشكلة معقّدة جعلتك تبطىء هذا الإبطاء؟ ولا شكّ أنّه لو كان معلّمك بقربك الساعة، لكنت انتهيت من واجباتك المدرسيّة ولكن هيّا يا حبيبي، إنّ العشاء حاضر ووالدتك تناديك لتناول طعامك وهو ساخن، وإنّها سوف تساعدك على الإسراع في إتمام فروضك بعد العشاء.

   فوضع جاك القلم من يده ووقف ببطء وأخذ ينظر إلى كتبه ودفاتره وهو مقطّب الجبين لا تبدو على وجهه علامات الرضا والارتياح، وترك محلّه واتّجه صوب جدّه بخطى وئيده ثمّ التفت إليه قائلًا: جدّاه، نعم، لم أنته من واجبي حتّى هذه الدقيقة، مع أنّني بدأت بالعمل منذ ساعتين، ولا تعجب من ذلك يا جدّي ولا تُعزِهِ إلى قلّة فهمي، وبلادة ذهني ولكنّي مشرّد الفكر ومشغول البال هذا المساء، لأنّ معلّمي العزيز لم يطرق بابنا منذ أربعة أيام، خلافًا لمألوفه، وقد حُرمت من مساعدته الثمينة ونصائحه التي كانت تُهديني إلى طرق النجاح، وأحسست أنّ جوّ غرفتي قد خلا من الإيناس واللطف منذ تغيّبه المفاجىء، وقد تعجّبت من معلّمي "باتشلي" كيف أنّه لم يُعلمني بهذا الغياب، ولم أعهد فيه قلّة المبالاة والاستهتار بالواجب وإخلاف الميعاد بدون سببٍ وجيه؛ فهذا قد أقلق أفكاري وجعلها مشرّدة، وأصبحت عاجزًا عن أيّ تفكير صحيح وحلّ أي معضلة حسابيّة مهما كانت يسيرة هيّنة، وإنّي آمل منك يا جدّي العزيز أن تبادر غدًا في الصباح الباكر لتستخبر عن صديقك الطيّب، معلّمي المخلص الودود، وألّا تبطىء في التفتيش عن مكان سكنه، لتأتينا به مساء الغد أو تطمئننا عنه حتّى أخفّف عنّي هذه الوساوس التي استولت على جوارحي من جرّاء انقطاعه عنّا، وتؤوب إلى نفسي القلقة راحتها وسكونها. إنّكم قد عوّدتموه على بيتنا وآنستموه حتّى صار يحسّ كأنّه واحد منّا، وزدنا به تمسّكًا لتهذيبه وحسن حديثه وكرم أخلاقه ولتضلّعه بالعلوم والمعارف واللغات والموسيقى والرسم.

   وهل تنسيان يا جدي ويا أمتِ تلك الصورة اللطيفة التي رسمها قبل انصرافه الأخير، وهي تمثّلني جالسًا على كرسي أمام مكتبي أحلّ عملًا حسابيًّا، رسمها بدون علم منّي في مدّة وجيزة. وإن ننس، فلا ننسى براعته في العزف على البيانو والكمان يقوم به كلّ ليلة بعد العشاء لكي يطربنا ويخلق جوّ المرح في بيتنا.

   إنّني كلّما  فكّرت فيه أتعجّب من ذكائه ومقدرته على استيعاب ما استوعبه، فإنّه يعلّمني العربيّة كأنّه أنبه أبنائها، ويفهمني النصوص الفرنسيّة كأنّه راسٍ على ضفّتي السين في قلب باريس، وقد عاشرتموه وتحدّثتم إليه وقلتم لي إنّه يُتقن اللسان الإنكليزيّ كأنّه واحد من أبناء لندن أو واشنطن، ويحسن جيدًا الأسبانيّة والألمانيّة والطليانيّة وأنّه ذو إلمام بالعبريّة والحبشيّة وغيرها من لغات بلادنا القديمة.

   وإنّ من كان مثل معلّمي هذا لجدير بالاحترام والتقدير والعناية... فالرجاء ثمّ الرجاء أن تعنى غدًا بالتفتيش عنه، والسؤال عنه من دون تلكّؤ يا جدّي... وسكت وعلامات التأثّر بادية على وجهه وانصبغت وجنتاه بحمرة الانفعال الورديّة... وتناولت والدته أطراف الحديث لتسهّل لابنها الوفيّ تناول طعام عشائه، لأنّ خطابه عن معلّمه " باتشلي" أنساه شهيّ المأكل والمشرب، ثمّ أخذ يمدّ يده إلى مرقته ويزدردها بدون عناية وغير مبالٍ بما يتساقط على حضنه من نقط السائل الساخن لأنّه كان شاخصًا إلى عينيّ أمه ليلقف ما قد تسمعه عن معلّمه من أخبار ونوادر وطرائف...

   فقالت: - نعم يا نور عيني، إنّك لعلى حقّ فيما تقول، ولكن ذلك لا يمنعك من تناول أكلك حتّى تشبع، فإنّك قد تعبت اليوم وخارت قواك من الجوع.

   إنّ "أنطونيو باتشلي" لشخص جذّاب بارع في كلّ شيء وهو يستحقّ تقدير كلّ من يقدّر حقّ الناس وخصوصًا النابغين منهم. لقد تعرّفنا عليه منذ سنة تقريبًا وقد اتّخذناه معلّمًا لك منذ ستة أشهر ولم تبدر منه منذ ذلك الحين حركة أو بادرة يشتمّ منها رائحة كريهة تنزله من منزلته أو تخفّض مقامه، ولكنّي قد لاحظت أنّ له خصائل غريبة وعادات وأطوارًا ليست كأطوار كاثوليك الشرق. فقد قال لنا إنّه طليانيّ كاثوليكيّ ولكنّه لا يتناول اللحوم، وقد راقبت ذلك منه يا بنيّ عدّة مرّات عندما دعوناه إلى تناول العشاء، وقد عذرناه لمّا بيّن سبب امتناعه عن ذلك وهو أنّه من النباتيّين الذين يشفقون على الحيوان ويستحرمون أكل لحمه، وأنّ له في إيطاليا وغيرها من الأمصار الأوروبيّة أنصارًا وشركاء في الرأي والمبدأ، وأنّه من أتباع الهندوسيين وغاندي العظيم وقد أُعجبنا جميعًا بعلوّ روحه وإنسانيّته، وصرنا نهيّء له الأطعمة الخاصّة القائمة على أساس الخضر والنبات والحبوب والزيوت والفاكهة، وقد عوَّدَنا بذلك الإقلال من اللحوم ووفّر علينا، من حيث لا نقصد ولا ندري، بعض الفواتير في هذه الأيّام التي غلا فيها اللحم غلاءً فاحشًا وأصبح لا يسَع تناوله إلّا الموسرون.

   وقد لاحظت أنّه لا يقبل منّا دعوة في بعض الأيام كيوم السبت مثلًا، وأنّه لا يجيء عندنا في مثل هذا اليوم مدّعيًا أنّ أشغالًا في مكان آخر تمنعه من المجيء إلينا وأنّه يتحدّث إلينا بروح إنسانيّة عالية كأنّها من روح عيسى عليه السلام وله المجد، ولكنّه لا يذهب إلى كنيسة ولا يؤمن بأقوال الرهابنة الواعظين لأنّه يعتقد، واعتقاده يقين، أنّهم أصحاب أقوال لا أصحاب أفعال، وأنّ الاتصال بالله وبروح الله يستطيعه الإنسان بنفسه بدون الآخرين من رجال الدين. وإنّ ما سمعته منه وما عرفته عنه من مثل هذه الأخبار لعجيب أن يصدر من كاثوليكيّ مثل المعلّم "باتشلي".

   إلّا أنّ جدّه قطع عليها الحديث وقال: إنّك واهمة يا بنتي وساذجة، إنّ أمثال "باتشلي" اليوم يُعدّون بالملايين وقد قطعوا حبل بعض التقاليد الدينيّة البالية، ولم يعودوا يؤمنون بخرافات الأديان وصاروا يستوحون أعمال المسيح وحده، ويستهدون بأقواله القائمة على أساس الإنسانيّة والمساواة بين أبناء البشر ونبذوا روح أرباب الدين المفرّقة...

- نعم يا أبت إنّني جاهلة ما تقول، ولكن كيفما كان الامر وسواء كان قولك صوابًا أو بعيدًا عن الصواب، فإنّ معلّم ابني لشخصيّة أعُدُّها فذّة ذكية... أليس عجبًا أن يتعلّم المرء عشر ألسن ويتقنها؟ أليس من العجيب أن يتفنّن " باتشلي " في اللغة العربيّة وهو الإيطاليّ المولد واللسان، ويتفلسف في أصولها كأنّه أحد متخرّجي جامعة الأزهر، ولم يمض على وجوده بين ظهرانينا في هذه البلاد العربيّة أكثر من بضع سنوات، أما سمعته يشرح اللغة والقواعد لابننا جان ويتمثّل بأبيات الشعر وآي القرآن؟

   إنّ كلّ ذلك يجعلنا نتمسّك به ونستبقيه معلّمًا مربّيًا وهاديًا لقرّة عيوننا، حفيدك جان، فإنّه بوسعه أن يجعل منه في المستقبل رجلًا عالمًا واعيًا ذا شأن في أمّته المتدرّجة اليوم في مراقي التمدّن الصعبة، وعنصرًا طيّبًا من عناصر الناشئة النافعة...

   فآمل منك يا أبت أن تُصغي إلى كلام جان وتحقّق رجاءه وتسرع إلى تلبية طلبه وتبكّر في الصباح قبل البدء بعملك في الاستعلام عن صديقنا، واعمل ما بوسعك على أن يكون عندنا الليلة؛ والتفتت إلى عزيزها مبتسمة مسترضية، فطابت نفسه وأخذ يستعدّ إلى لقاء معلّمه المحبوب في مساء الغد.

                                      يوسف س. نويهض